كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] فبين أن زيغهم الأول، كان سببًا لإزاغة الله قلوبهم، وتلك الإزاغة قد تكون بالأكنة والطبع والختم على القلوب.
وكقوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ الله مَرَضًا} [البقرة: 10] وقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] الآية.
وقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] الآية.
وإيضاح هذا الجواب: أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَاب} [فصلت: 5] يقصدون بذلك إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم لا يؤمنون به بوجه، ولا يبتعونه بحال، ولا يقرون بالحق الذي هو كون كفرهم هذا هو الجريمة، والذنب الذي كان سببًا في الأكنة، والوقر والحجاب. فدعواهم كاذبة، لأن الله جعل لهم قلوبًا يفهمون بها، وآذانًا يسمعون بها، خلافًا لما زعموا، ولكنه، سبب لهم الأكنة، والوقر والحجاب، بسبب مبادرتهم إلى الكفر، وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا المعنى أوضحه رده تعالى على اليهود في قوله عنهم: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: 155].
وقد حاول الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة، الجواب على الإشكال المذكور فقال: فإن قيل إنه تعالى حكى هذا المعنى عن الكفار فقال في معرض الذم، وذكر أيضًا ما يقرب منه في معرض الذم، فقال: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِم} [البقرة: 88] ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء الثلاثة بعينها في معنى التقرير والإثبات في سورة الأنعام، فقال: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الأنعام: 25] فكيف الجمع بينهما؟
قلنا: إنه لم يقل ها هنا إنهم كذبوا في ذلك، إنما الذي ذمهم عليه، أنهم قالوا إنا إذًا كنا كذلك، لم يجز تكليفنا وتوجيه الأمر والنهي علينا، وهذا الثاني باطل.
أما الأول: فلأنه ليس في الآية ما يدل على أنهم كذبوا فيه. اه منه. والأظهر: هو ما ذكرنا.
قال صاحب الكشاف في تفسير قوله تعالى: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5].
فإن قلت: هل لزيادة: من في قوله: ومن بيننا وبينك حجاب فائدة؟ قلت: نعم.
لأنه لو قيل: وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجابًا حاصل وسط الجهتين.
وأما بزيادة مِنْ فالمعنى: أن حجابًا ابتدأ منا وابتدأ منك.
فالمسافة المتوسطة لجهتنا، وجهتك مستوعبة بالحجاب، لا فراغ فيهاز انتهى منه.
واستحسن كلامه هذا الفخر الرازي وتعقبه ابن المنير على الزمخشري، فأوضح سقوطه والحق معه في تعقبه عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]، وقد قدمنا تفسيره وإيضاحه بالآيات القرآنية، في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا} [الإسراء: 45].
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ}.
أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة، نبيه صلى الله عليه وسلم، أن يقول للناس: {إِنَّمَا أنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ}.
والقصر في قوله: {إِنَّمَا أنَاْ بَشَرٌ} إضافي أي لا أقول لكم إني ملكن وإنما أنا رجل من البشر.
وقوله: {مِّثْلُكُمْ} في الصفات البشرية، ولكن الله فضلني بما أوحي إليَّ من توحيده.
كما قال تعالى عن الرسل في سورة إبراهيم: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [إبراهيم: 11] أي كما منَّ علينا بالوحي والرسالة.
وما ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ذكره في آخر سورة الكهف في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110] الآية.
وقد أوضحنا وجه حصر ما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم، في مضمون لا إله إلا الله، في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [الأنبياء: 108] في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
وبينا في مواضع متعددة من هذا الكتاب المبارك إنكار المشركين كون الرسل من البشر، وأنهم ينبغي أن يكونوا من الملائكة، وما رد الله عليهم به ذلك من الآيات القرآنية، أوضحنا ذلك في سورة ص، في الكلام على قوله تعالى: {وعجبوا أَن جَاءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ص: 4] وفي سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا} [الإسراء: 94] إلى قوله: {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولًا} [الإسراء: 95].
قوله تعالى: {وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ}.
قد استدل بعض علماء الأصول بهذه الآية الكريمة، على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، لأنه تعالى صرح في هذه الآية الكريمة، بأنهم مشركون، وأنهم كافرون بالآخرة، وقد توعدهم بالويل على شركهم وكفرهم بالآخرةن وعدم إيتائهم الزكاة، سواء قلنا إن الزكاة في الآية هي زكاة المال المعروفة، أو زكاة الأبدان بفعل الطاعات واجتناب المعاصي.
ورجح بعضهم القول الأخير لأن سورة فصلت هذه، من القرآن النازل بمكة قبل الهجرة، وزكاة المال المعروفة إنما فرضت بعد الهجرة سنة اثنتين، كما قدمناه في سورة الأنعام، في الكلام على قوله تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141].
وعلى كل حال، فالآية تدل على خطاب الكفار بفروع الإسلام.
أعني امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من كونهم مخاطبين بذلك وأنهم يعذبون على الكفر، ويعذبون على المعاصي، جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {عنهم} مقررًا له: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين حتى أَتَانَا اليقين} [المدثر: 42- 47].
فصرح تعالى عنهم، مقررًا له أن من الأسباب التي سلكتهم في سقر، أي أدخلتهم النار، عدم الصلاة، وعدم إطعام المسكين، وعد ذلك مع الكفر بسبب التكذيب بيوم الدين.
ونظير ذلك قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 30- 32] ثم بين سبب ذلك فقال: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 33- 36] الآية إلى غير ذلك من الآيات.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)} الأجر جزاء العمل، وجزاء عمل الذين آمنوا وعملوا الصالحات، هو نعيم الجنة وذلك الجزاء غير ممنون، أي غير مقطوع، فالممنون اسم مفعول منه بمعنى قطعه، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته:
لمعفر فهدٍ تنازع شِلْوَةٌ ** غُبْسٌ كواسِبُ ما يمن طعامها

فقوله: ما يمن طعامها أي ما يقطع، وقول ذي الأصبع:
إني لعمرك ما بابي بذي غلق ** على الصديق ولا خيري بممْنونِ

وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن أجرهم غير ممنون، نص الله تعالى عليه في آيات أخر من كتابه، كقوله تعالى في آخر سورة الانشقاق {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25].
وقوله تعالى في سورة التين: {إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] وقوله تعالى في سورة هود {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].
فقوله: غير مجذوذ أي غير مقطوع، وبه تعلم أن غير مجذوذ وغير ممنون، معناهما واحد.
وقوله تعالى في ص {إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ} [ص: 54] أي ماله من انتهاء ولا انقطاع.
وقوله في النحل {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} [النحل: 96].
وهذا الذي ذكرنا هو الذي عليه الجمهور خلافًا لمن قال: إن معنى غير ممنون، غير ممنون عليهم به.
وعليهن فالمن في الآية من جنس المن المذكورن في قوله تعالى: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264].
ومن قال: إن معنى غير ممنون، غير منقوص، محتجًا بأن العرب تطلق الممنون على المنقوص، قالوا: ومنه قول زهير:
فضل الجياد على الخيل البطاءِ فلا ** يعطي بذلك مَمْنونًا ولا نَزَقَا

فقوله ممنونًا أي منقوصًا.
وهذا وإن صح لغة، فالأظهر أنه ليس معنى الآية.
بل معناها: هو ما قدمنا. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}.
الظاهر أن معنى قوله هنا في أربعة أيام: أي في تتمة أربعة أيام.
وتتمة الأربعة حاصلة بيومين فقط، لأنه تعالى قال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] ثم قال في أربعة أيام، أي في تتمة أربعة أيام.
ثم قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] فتضم اليومين إلى الأربعة السابقة، فيكون مجموع الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض وما بينهما، ستة أيام.
وهذا التفسير الذي ذكرنا في الآية لا يصح غيره بحال، لأن الله تعالى صرح في آيات متعددة من كتابه بأنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله في الفرقان: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش الرحمن فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59].
وقوله تعالى في السجدة {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} [السجدة: 4] الآية.
وقوله تعالى في ق: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] وقوله تعالى في الأعراف {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الأعراف: 54] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
فلو لم يفسر قوله تعالى: {في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} بأن معناه في تتمة أربعة أيام، لكان المعنى أنه تعالى خلق السماوات والأرض وما بينهما في ثمانية أيام، لأن قوله تعالى: {في أَرْبَعَةِ أَيَّام} إذا فسر بأنها أربعة كاملة ثم جمعت مع اليومين اللذين خلقت فيهما الأرض المذكورين في قوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9]، واليومين اللذين خلقت فيهما السماوات المذكورين في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] لكان المجموع ثمانية أيام.
وذلك لم يقل به أحد من المسلمين.
والنصوص القرآنية مصرحة بأنها ستة أيام، فعلم بذلك صحة التفسير الذي ذكرنا وصحة دلالة الآيات القرآنية عليه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} قد قدمنا الكلام على أمثاله من الآيات، في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] الآية، وقوله تعالى: {وَبَارَكَ فِيهَا} أي أكثر فيها البركات، والبركة الخير، وقوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقْوَاتَهَا}.
التقدير والخلق في لغة العرب معناهما واحد.
والأقوات جمع قوت، والمراد بالأقوات أرزاق أهل الأرض ومعايشهم وما يصلحهم.
وقد ذكرنا في كتابنا دفع إيهام الاضطراب، عن آيات الكتاب:
أن آية فصلت هذه، أعني قوله تعالى: {وَقَدَّرَ فِيهَا أقْوَاتَهَا} يفهم منها الجمع بين الآيات الدالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كقوله هنا: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] ثم رتب على ذلك بثم، قوله: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] إلى قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] مع بعض الآيات الدالة على أن السماء خلقت قبل الأرض، كقوله تعالى في النازعات: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
فقلنا في كتابنا المذكور ما نصه: قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [البقرة. 29] الآية، تدل على أن خلق الأرض قبل خلق السماء، بدليل لفظه ثم التي هي للترتيب والانفصال.
وكذلك آية حم السجدة، تدل أيضًا على خلق الأرض قبل السماء، لأنه قال فيها: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إلى أن قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] الآية.
مع أن آية النازعات تدل على أن دحور الأرض بعد خلق السماء، لأنه قال فيها {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السماء بَنَاهَا} [النازعات: 27]، ثم قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30].
اعلم أولًا أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الجمع بين آية السجدة وآية النازعات، فأجاب بأن الله تعالى خلق الأرض أولًا قبل السماء غير مدحورة، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبعًا في يومين، ثم دحا الأرض بعد ذلك، وجعل فيها الرواسي والأنهار وغير ذلك.
فاصل خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحزها بجبالها وأشجارها ونحو ذلك، بعد خلق السماء.
ويدل لهذا أنه قال: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ولم يقل خلقها ثم فسر دحوه إياها بقوله: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31] وهذا الجمع الذي جمع به ابن عباس بين هاتين الآيتين واضح لا إشكال فيه. مفهوم من ظاهر القرآن العظيم إلا أنه يرد عليه إشكال من آية البقرة هذه.
وإيضاحه أن ابن عباس جمع بأن خلق الأرض قبل خلق السماء، ودحوها بما فيها بعد خلق السماء.
وفي هذه الآية التصريح بأن جميع ما في الأرض مخلوق قبل خلق السماء لأنه قال فيها {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعًا ثُمَّ استوى إِلَى السماء} [البقرة: 29] الآية.
وقد مكثت زمنًا طويلًا أفكر في حل في الإشكال حتى هداني الله إليه ذات يوم ففهمته من القرآن العظيم.
وإيضاحه: أن هذا الإشكال مرفوع من وجهين، كل منهما تدل عليه أية من القرآن.